أنّى تدخل مدينة عريقة حضاريًّا، متأمّلًا، تقف مندهشًا أمام الأبنية القديمة بهندساتها، فتستكشف وجوهًا مرّت، قد زادت على جمالها الطّبيعيّ، للموقع الجغرافيّ، تراكمات ثقافيّة جماليّة تبرز خصائص الإنسان المنتمي كيانيًّا إلى أرضها، فيأخذ منها، ويعطيها من خصاله الحميدة، على حدّ قول سبينوزا: "لا وجود لشيء من دون أن يكون لطبيعته أثر ما".
وما أشدّ شعورك بالفرح وأنت تعاين صورًا قديمة تعكس الحال الّتي كانت عليها تلك المدينة، مثبتة ذينك المكان والزّمان، مع بصمات المصوّر الزّاويّة الرّؤيا. ولكنّ مدن لبنان العريقة، للأسف، لا تحتضن متاحف تحافظ على ما وصلنا من تراث، لكي نحافظ، بدورنا، عليه، للأجيال القادمة، كإرث وطنيّ، وأمانة حضاريّة وإنسانيّة.
إلّا أنّ أعلام الفكر والثّقافة يدركون قيمة الإنسان والتّراث، ويعملون على ما تقاعست عنه مؤسّسات الدّولة. فالتّقصير والتّقاعس والإهمال تستفزّ المبدع والخلّاق. وهذا ما حمل الدّكتور جان عبد الله توما على أن يُكبّ، في أبحاثه، على رفع الغبار عن مخطوطات، ومحفوظات، وصور، وروايات، وأحاديث تناقلها الكبار، الكبار من أهلها، عن المدينة البحريّة المتفاعلة ما بين البحر واليابسة: "من هذا البحر المالح سقى أبناء الميناء العالم فكرًا". فجالست أهل مدينة الميناء – طرابلس، في هذين المؤلَّفين، أسمع أخبارهم، وأكتشف سعة معرفتهم، فتعرّفت على أعلامها، وأهلها الطّيّبين، وأبحرت في تاريخها، وثقافتها، والعادات الّتي طبعت أهلها بطابع مميّز. ما كنت لأستمتع لولا جهد الدّكتور توما، من خلال الكتابين المرجعين "يوميّات مدينة"، و"وجوه بحريّة". وبينا أنا أقرأ، استحضرني قول لليو تولستوي: "لا علاقة للنّجاح بما تكسبه في الحياة، أو تنجزه لنفسك.. النّجاح هو ما تفعله للآخرين!" لقد نجح توما، وتألّق، من خلال تلك الوجوه البحريّة، ليصبح البحّار الأوّل، ولو لم يمتهن سوى صيد الكلمات..
سقى الدّكتور جان عبد الله توما ريشته من حبر تراث المحبّة، فرسم لوحات جماليّة تدعونا لعيش القيم المتوارثة الّتي لا تزال صالحة إلى يومنا؛ وما أحوجنا إليها اليوم، لتعود بنا إلى الجذور، فنستلهمها، من أجل عيش حاضرنا، مضفين على الواقع من خبرات الماضي الجميل العابق برائحة البخور، والصّادح بصدى أجراس الكنائس، وبصوت المؤذّن، في سمفونيّة لبنانيّة، هي رسالة إرساليّة، هديّة للعالم، مرتفعة إلى السّماء.
يدرك الدّكتور توما منهج الحياة وأصولها وسياقاتها، إدراكه اللّغة العربيّة، وهو أستاذها والمتبحّر في شؤونها، فأوصل رسالة مدينته بالانفتاح والعيش معًا، تحت راية الأبناء والأهل والمواطنة، بأسلوب شائق، وممتع، ومتميّز بدقّة الوصف، وبسرديّة القصّة القصيرة المحبّبة، فاختصر، بسطور قليلة، حكاية معمّرينَ عمرًا وثقافةً، لتبقى مدينته "الميناء"، الميناء الأمين، واصفًا مشروعه بقوله: نحن لم نكتب وجوه ناس بل وجه مدينة، ولم نتحدّث عن عادات بشر بل عن تقاليد مدينة، ولم نتناول ملامح أحبّة مضوا إلى وجه باريهم بل مدينة تبحث عن هويّة في عصر المتبدّلات والمتغيّرات الهائلة".
إنّ أسلوب الدّكتور توما معجون بخمير الحبّ وعرفان الجميل لكلّ من يعيش الحياة، ويفعمها حياةً، فيختم إحدى قصصه الرّائعة، بهذا النّصّ الأدبيّ الحكميّ الرّمزيّ، فيقول: "يا زقاق العمر الّذي مضى، هلاّ مددت أرصفتك قليلًا من أجل ساحة يلهو بها أطفالنا في زمن كثرت فيه السّاحات وقلّت فيه الرّؤى، كثرت فيه الأحلام وقلّ فيه الأطفال، كثرت فيها أقواس القزح وليس من سلال ذهب. سألني إبريق ماء الفخار عنك يا ملعب الطّفولة، قلت انكسر كنقطة دمع عند مرمى الجفن".
يبقى الكتاب كتابًا إلّا إذا اختصر حياة، فيصبح عندئذ مرجعًا ومربّيًا في مسيرة الوجود. فألف تحيّة وتحيّة لكلّ مبدع خلّاق في مسيرة الحياة.